فصل: تفسير الآية رقم (42)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏13‏]‏

‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ‏}‏ أي يحرقون، وأصل الفتن إذابة الجوهر ليظهر غشه ثم استعمل في الإحراق والتعذيب ونحو ذلك، و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ نصب على الظرفية لمحذوف دل عليه وقوع الكلام جواباً للسؤال مضاف للجملة الاسمية بعده أي يقع يوم الدين يوم هم على النار الخ، وقال الزجاج‏:‏ ظرف لمحذوف وقع خبراً لمبتدأ كذلك أي هو واقع، أو كائن يوم الخ، وجوز أن يكون هو نفسه خبر مبتدأ محذوف، والفتحة فتحة بناء لإضافته إلى غير، وهي الجملة الاسمية فإن الجمل بحسب الأصل كذلك على كلام فيه بين البصريين والكوفيين مفصل في «شرح التسهيل» أي هو يوم هم الخ، والضمير قيل‏:‏ راجع إلى وقت الوقوع فيكون هذا الكلام قائماً مقام الجواب على نحو سيقولون لله في جواب ‏{‏مَن رَّبُّ السموات والارض‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 16‏]‏ لأن تقدير السؤال في أي وقت يقع، وجوابه الأصلي في يوم كذا، وإذا قلت‏:‏ وقت يوم كذا كان قائماً مقامه، ويجوز أن يكون الضمير لليوم والكلام جواب بحسب المعنى، فالتقدير يوم الجزاء يوم تعذيب الكفار ويؤيد كونه مرفوع المحل خبراً لمبتدأ محذوف قراءة ابن أبي عبلة‏.‏ والزعفراني ‏(‏يوم هم‏)‏‏}‏ بالرفع، وزعم بعض النحاة أن يوم بدل من ‏{‏يَوْمِ الدين‏}‏ وفتحته على قراءة الجمهور فتحة بناء، و‏{‏يَوْمٍ‏}‏ وما في حيزه من جملة كلام السائلين قالوه استهزاءاً، وحكى على المعنى، ولو حكى على اللفظ لقيل‏:‏ يوم نحن على النار نفتن، وهو في غاية البعد كما لا يخفى، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏14‏]‏

‏{‏ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ‏}‏ بتقدير قول وقع حالاً من ضمير ‏{‏يُفْتَنُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 13‏]‏ أي مقولاً لهم ‏{‏ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ‏}‏ أي عذابكم المعدّ لكم، وقد يسمى مايحصل عنه العذاب كالكفر فتنة، وجوز أن يكون منه ما هنا كأنه قيل‏:‏ ذوقوا كفركم أي جزاء كفركم أو يجعل الكفر نفس العذاب مجازاً وهو كما ترى ‏{‏هذا الذى كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ جملة من مبتدأ وخبر داخلة تحت القول المضمر أي هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون به بطريق الاستهزاء وجوز أن يكون هذا بدلاً من ‏{‏فِتْنَتَكُمْ‏}‏ بتأويل العذاب، وفيه بعد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏15‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏15‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ المتقين فِى جنات وَعُيُونٍ‏}‏ لا يبلغ كنهها ولا يقادر قدرها‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏16 - 17‏]‏

‏{‏آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ‏(‏16‏)‏ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏‏}‏

‏{‏ءاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ‏}‏ أي قابلين لكل ما أعطاهم عز وجل راضين به على معنى إن كل ما آتاهم حسن مرضي يتلقى بحسن القبول، والعموم مأخوذ من شيوع ما وإطلاقه في معرف المدح وإظهار مَنِّهِ تعالى عليهم، واعتبار الرضا لأن الأخذ قبول عن قصد، ونصب ‏{‏ءاخِذِينَ‏}‏ على الحال من الضمير في الظرف ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ‏}‏ في الدنيا ‏{‏مُحْسِنِينَ‏}‏ أي لأعمالهم الصالحة آتين بها على ما ينبغي فلذلك استحقوا ما استحقوا من الفوز العظيم، وفسر إحسانهم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانُواْ قَلِيلاً مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ‏}‏ الخ على أن الجملة في محل رفع بدل من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 16‏]‏ حصل بها تفيسره، أو أنها جملة لا محل لها من الإعراب مفسرة كسائر الجمل التفسيرية، وأخرج الفريابي‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية‏:‏ ‏{‏ءاخِذِينَ مَا ءاتاهم رَبُّهُمْ‏}‏ من الفرائض ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 16‏]‏ أي كانوا قبل تنزل الفرائض يعملون، ولا أظن صحة نسبته لذلك الحبر، ولا يكاد تجعل جملة ‏{‏كَانُواْ‏}‏ الخ عليه تفسيراً إذا صح ما نقل عنه في تفسيرها، وسيأتي إن شاء الله تعالى‏.‏ والهجوع النوم، وقيده الراغب بقوله‏:‏ ليلاً، وغيره بالقليل، و‏{‏مَا‏}‏ إما مزيدة فقليلاً معمول الفعل صفة لمصدر محذوف أي هجوعاً قليلاً و‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ صفة، أو لغو متعلق بيهجعون و‏{‏مِنْ‏}‏ للابتداء، وجملة ‏{‏يَهْجَعُونَ‏}‏ خبر كان أو ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ صفة لظرف محذوف أي زماناً قليلاً و‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ صفة على نحو قليل من المال عندي وإما موصولة عائدها محذوف أي زماناً قليلاً و‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ صفة على نحو قليل من المال عندي وإما موصولة عائدها محذوف فهي فاعل ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ وهو خبر كان و‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ حال من الموصول مقدم كأنه قيل‏:‏ كانوا قد قل المقدار الذي يهجعون فيه كائناً ذلك المقدار ‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ وإما مصدرية فالمصدر فاعل ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ وهو خبر كان أيضاً، و‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ بيان لا متعلق بما بعده لأن معمول المصدر لا يتقدم، أو حال من المصدر، و‏{‏مِنْ‏}‏ للابتداء كذا في «الكشف» فهما من الكشاف، وذهب بعضهم إلى أن ‏{‏مِنْ‏}‏ على زيادة ما بمعنى في كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة‏}‏ ‏[‏الجمعة‏:‏ 9‏]‏ واعترض بن المنير احتمال مصدريتها بأن لا يجوز في ‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ كونه صفة، أو بياناً للقليل لأنه فيه واقع على الهجوع ولا صلة المصدر لتقدمه، وأجيب بأنه بيان للزمان المبهم؛ وحكى الطيبي أنه إما منصوب على التبيين أو متعلق بفعل يفسره ‏{‏يَهْجَعُونَ‏}‏ وجوز أن يكون ‏{‏مَا يَهْجَعُونَ‏}‏ على ذلك الاحتمال بدلاً من اسم كان فكأنه قيل‏:‏ كان هجوعهم قللاً وهو بعيد، وجوز في ‏{‏مَا‏}‏ أن تكون نافية، و‏{‏قَلِيلاً‏}‏ منصوب بيهجعون والمعنى كانوا لا يهجعون من الليل قليلاً ويحيونه كله ورواه ابن أبي شيبة‏.‏

وأبو نصر عن مجاهد، ورده الزمخشري بأن ‏{‏مَا‏}‏ النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها لأن لها صدر الكلام وليس فيها التصرف الذي في أخواتها كلا فإنها قد تكون كجزء مما دخلت عليه نحو عوتب بلا جرم ولم‏.‏ ولن لاختصاصهما بالفعل كالجزء منه، وأنت تعلم أن منع العمل هو مذهب البصريين، وفي «شرح الهادي» أن بعض النحاة أجازه مطلقاً، وبعضهم أجازه في الظرف خاصة للتوسع فيه، واستدل عليه بقوله‏:‏ ونحن عن فضلك ما استغنينا *** نعم يرد على ذلك أن فيه كما في «الانتصاف» خلللاً من حيث المعنى فإن طلب قيام الليل غير مستثنى منه جزء للهجوع وإن قل غير ثابت في الشرع ولا معهود اللهم إلا أن يدعي أن من ذهب إلى ذلك يقول‏:‏ بأنه كان ثابتاً في الشرع، فقد أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وابن المنذر عن عطاء أنه قال في الآية‏:‏ كان ذلك إذا أمروا بقيام الليل كله فكان أبو ذكر يعتمد على العصار فمكثوا شهرين ثم نزلت الرخصة ‏{‏فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏كَانُواْ قَلِيلاً‏}‏ في عددهم، وتم الكلام عند ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ ثم ابتدأ ‏{‏مّن اليل مَا يَهْجَعُونَ‏}‏ على أن ‏{‏مَا‏}‏ نافية؛ وفهي ما تقدم مع زيادة تفكيك للكلام، ولعل أظهر الأوجه زيادة ‏{‏مَا‏}‏ ونصب ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ على الظرفية، و‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ صفة قيل‏:‏ وفي الكلام مبالغات لفظ الهجوع بناءاً على أنه القليل من النوم، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ و‏{‏مِّنَ اليل‏}‏ لأن الليل وقت السبات والراحة وزيادة ‏{‏مَا‏}‏ لأنها تؤكد مضمون الجملة فتؤكد القلة وتحققها باعتبار كونها قيداً فيها‏.‏

والغرض من الآية أنهم يكابدون العبادة في أوقات الراحة وسكون النفس ولا يستريحون من مشاق النهار إلا قليلاً، قال الحسن‏:‏ كابدوا قيام الليل لا ينامون منه إلا قليلاً، وعن عبد الله بن رواحة هجعوا قليلاً ثم قاموا، وفسر أنس بن مالك الآية كما رواه جماعة عنه وصححه «الحاكم» فقال‏:‏ كانوا يصلون بين المغرب والعشاء وهي لا تدل على الاقتصار على ذلك‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏18‏]‏

‏{‏وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏وبالاسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ أي هم مع قلة هجوعهم وكثرة تهجدهم يداومون على الاستغفار في الأسحار كأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم ولم يتفرغوا فيه للعبادة، وفي بناء الفعل على الضمير إشعار بأنهم الأحقاء بأن يوصفوا بالاستغفار كأنهم المختصون به لاستدامتهم له وإطنابهم فيه‏.‏

وفي الآية من الإشارة إلى مزيد خشيتهم وعدم اغترارهم بعبادتهم ما لا يخفى، وحمل الاستغفار على حقيقته المشهورة هو الظاهر وبه قال الحسن‏.‏

أخرج عنه ابن جرير‏.‏ وغيره أنه قال‏:‏ صلوا فلما كان السحر استغفروا، وقيل‏:‏ المراد طلبهم المغفرة بالصلاة، وعليه ما أخرج ابن المنذر‏.‏ وجماعة عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ ‏{‏يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ يصلون، وأخرج ابن مردويه عنه ذلك مرفوعاً ولا أراه يصح، وأخرج أيضاً عن أنس قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن آخر الليل في التهجد أحب إليّ من أوله لأن الله تعالى يقول‏:‏ ‏{‏وبالاسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏» وهو محتمل لذلك التفسير والظاهر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى أموالهم حَقٌّ‏}‏ أي نصيب وافر يستوجبونه على أنفسهم تقرباً إلى الله عز وجل وإشفاقاً على الناس فهو غير الزكاة كما قال ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وغيرهما‏.‏

‏{‏لَّلسَّائِلِ‏}‏ الطالب منهم ‏{‏والمحروم‏}‏ وهو المتعفف الذي يحسبه الجاهل غنياً فيحرم الصدقة من أكثر الناس‏.‏

أخرج ابن جرير‏.‏ وابن حبان‏.‏ وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان والأكلة والأكلتان قيل‏:‏ فمن المسكين‏؟‏ قال‏:‏ الذي ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدق عليه فذلك المحروم» وفسره ابن عباس بالمحارف الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه ولا يسأل الناس، وقيل‏:‏ هو الذي يبعد منه ممكنات الرزق بعد قربها منه فيناله الحرمان، وقال زيد بن أسلم‏:‏ هو الذي اجتيحت ثمرته، وقيل‏:‏ من ماتت ماشيته، وقيل‏:‏ من ليس له سهم في الإسلام، وقيل‏:‏ الذي لا ينمو له مال، وقيل‏:‏ غير ذلك قال في البحر‏:‏ وكل ذلك على سبيل التمثيل ويجمع الأقوال أنه الذي لا مال له لحرمان أصابه وأنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أقول وقال منذر بن سعيد هذا الحق هو الزكاة المفروضة، وتعقب بأن السورة مكية وفرض الزكاة بالمدينة، وقيل‏:‏ أصل فريضة الزكاة كان بمكة والذي كان بالمدينة القدر المعروف اليوم، وعن ابن عمر أن رجلاً سأله عن هذا الحق فقال الزكاة وسوى ذلك حقوق فعمم، والجمهور على الأول‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏20‏]‏

‏{‏وَفِي الْأَرْضِ آَيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ‏(‏20‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى الارض ءايات‏}‏ دلائل من أنواع المعادن‏.‏ والنباتات‏.‏ والحيوانات، أو وجوه دلالات من الدحو وارتفاع بعضها عن الماء، واختلاف أجزائها في الكيفيات والخواص، فالدليل على الأول ما في الأرض من الموجودات والظرفية حقيقية والجمع على ظاهره، وعلى الثاني الدليل نفس الأرض، والجمعية باعتبار وجوه الدلالة وأحوالها، والظرفية من ظرفية الصفة في الموصوف والدلالة على وجود الصانع جل شأنه وعلمه وقدرته وإرادته ووحدته وفرط رحمته عز وجل ‏{‏لّلْمُوقِنِينَ‏}‏ للموحدين الذين سلكوا الطريق السوي البرهاني الموصل إلى المعرفة فهم نظارون بعيون باصرة وأفهام نافذة، وقرأ قتادة آية بالإفراد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏21‏]‏

‏{‏وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى أَنفُسِكُمْ‏}‏ أي في ذواتكم آيات إذ ليس في العالم شيء إلا وفي ذات الإنسان له نظير يدل مثل دلالته على ما انفرد به من الهيآت النافعة والمناظرة البهية والتركيبات العجيبة والتمكن من الأفعال البديعة واستنباط الصنائع المختلفة واستجماع الكمالات المتنوعة، وآيات الأنفس أكثر من أن تحصى، وقيل‏:‏ أريد بذلك اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع، ورواه عطاء عن ابن عباس، وقيل‏:‏ سبيل الطعام وسبيل الشراب والحق أن لا حصر ‏{‏أَفلاَ تُبْصِرُونَ‏}‏ أي ألا تنظرون فلا تبصرون بعين البصيرة، وهو تعنيف على ترك النظر في الآيات الأرضية والنفسية، وقيل‏:‏ في الأخير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى السماء رِزْقُكُمْ‏}‏ أي تقديره وتعيينه، أو أسباب رزقكم من النيرين والكواكب والمطالع والمغارب التي تختلف بها الفصول التي هي مبادىء الرزق إلى غير ذلك، فالكلام على تقدير مضاف أو التجوز بجعل وجود الأسباب فيها كوجود المسبب، وذهب غير واحد إلى أن السماء السحاب وهي سماء لغة، والمراد بالرزق المطر فإنه سبب الأقوات وروى تفسيره بذلك مرفوعاً وقرأ ابن محيصن أرزاقكم على الجمع‏.‏

‏{‏وَمَا تُوعَدُونَ‏}‏ عطف على رزقكم أي والذي توعدونه من خير وشر كما روي عن مجاهد، وفي رواية أخرى عنه وعن الضحاك ما توعدون الجنة والنار وهو ظاهر في أن النار في السماء وفيه خلاف، وقال بعضهم‏:‏ هو الجنة وهي على ظهر السماء السابعة تحت العرش، وقيل‏:‏ أمر الساعة، وقيل‏:‏ الثواب والعقاب فإنهما مقدران معينان فيها، وقيل‏:‏ إنه مستأنف خبره‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏فَوَرَبّ السماء والارض إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ على أن ضمير ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ ‏{‏لَّمّاً‏}‏ وعلى ما تقدم، فإما له أو للرزق، أو لله تعالى، أو للنبي صلى الله عليه وسلم، أو للقرآن، أو للدين في ‏{‏إِنَّ الدّينَ لَوَاقِعٌ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 6‏]‏ أو لليوم المذكور في ‏{‏أَيَّانَ يَوْمُ الدين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 12‏]‏ أو لجميع المذكور ‏{‏أَمَّا مَا‏}‏، واستظهر أبو حيان الأخير منها وهو مروى عن ابن جريج أي أن جميع ما ذكرناه من أول السورة إلى هنا لحق ‏{‏لَحَقٌّ مّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ‏}‏ أي مثل نطقكم كما أنه لا شك لكم في أنكم تنطقون ينبغي أن لا تشكوا في حقية ذلك وهذا كقول الناس‏:‏ إن هذا لحق كما أنك ترى وتسمع، ونصب ‏{‏مَثَلُ‏}‏ على الحالية من المستكن في ‏{‏لَحَقُّ‏}‏ وهو لا يتعرف بالإضافة لتوغله في التنكير، أو على الوصف لمصدر محذوف أي إنه حق حقاً مثل نطقكم، وقيل‏:‏ إنه مبني على الفتح فقال المازني‏:‏ لتركبه مع ‏{‏مَا‏}‏ حتى صارا شيئاً واحداً نحو ويحما وأنشدوا لبناء الاسم معها قول الشاعر‏:‏ أثور «ما» أصيدكم أم ثورين *** أم هذه الجماء ذات القرنين

وقال غيره‏:‏ لإضافته إلى غير متمكن وهو ‏{‏مَا‏}‏ إن كانت نكرة موصوفة بمعنى شيء، أو موصولة بمعنى الذي و‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ الخ خبر مبتدأ محذوف أي هو ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ الخ، والجملة صفة، أو صلة، أو هو أن بما في حيزها إن جعلت ‏{‏مَا‏}‏ زائدة، وهو نص الخليل ومحله على البناء الرفع على أنه صفة ‏{‏لَحَقُّ‏}‏ أو خبر ثان ويؤيده قراءة حمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وأبي بكر‏.‏ والحسن‏.‏ وابن أبي إسحاق‏.‏ والأعمش بخلاف عن ثلاثتهم ‏{‏مَثَلُ‏}‏ بالرفع، وفي «البحر» أن الكوفيين يجعلون مثلاً ظرفاً فينصبونه على الظرفية ويجيزون زيد مثلك بالنصب، وعليه يجوز أن يكون في قراءة الجمهور منصوباً على الظرفية واستدلالهم، والرد عليهم مذكور في النحو وفي الآية من تأكيد حقية المذكور ما لا يخفى، وأخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال فيها‏:‏ بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ قاتل الله قوماً أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا ‏"‏ وعن الأصمعي أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود فقال‏:‏ ممن الرجل‏؟‏ قلت‏:‏ من بني أصمع قال‏:‏ من أين أقبلت‏:‏ من موضع يتلى فيه كلام الرحمن قال‏:‏ اتل علي فتلوت ‏{‏والذريات‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 1‏]‏ فلما بلغت ‏{‏وَفِى السماء رِزْقُكُمْ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 22‏]‏ قال‏:‏ حسبك فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت فإذا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلم علي واستقرأ السورة فلما بلغت الآية صاح وقال‏:‏ قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً ثم قال‏:‏ وهل غير هذا‏؟‏ فقرأت ‏{‏فَوَرَبّ السماء والارض إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ فصاح وقال‏:‏ يا سبحان الله من ذا أغضب الجليل حتى حلف لم يصدقوه بقوله حتى ألجأوه إلى اليمين قالها ثلاثاً وخرجت معها نفسه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبراهيم‏}‏ فيه تفخيم لشأن الحديث وتنبيه على أنه ليس مما علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير طريق الوحي قاله غير واحد، وفي «الكشف» فيه رمز إلى أنه لما فرغ من إثبات الجزاء لفظاً القسم ومعنى بما في المقسم به من التلويح إلى القدرة البالغة مدمجاً فيه صدق المبلغ، وقضى الوطر من تفصيله مهد لإثبات النبوة وأن هذا الآتي الصادق حقيق بالاتباع لما معه من المعجزات الباهرة فقال سبحانه‏:‏ ‏{‏هَلُ أَتَاكَ‏}‏ الخ، وضمن فيه تسليته عليه الصلاة والسلام بتكذيب قومه فله بسائر آبائه وإخوانه من الأنبياء عليهم السلام أسوة حسنة هذا إذا لم يجعل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِى موسى‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 38‏]‏ عطفاً على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفِى الارض ءايات‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 20‏]‏ وأما على ذلك التقدير فوجهه أن يكون قصة الخليل‏.‏ ولوط عليهما السلام معترضة للتسلي بإبعاد مكذبيه وأنه مرحوم منجي مكرم بالاصطفاء مثل أبيه إبراهيم صلوات الله تعالى وسلامه عليه وعليهم والترجيح مع الأول انتهى وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يتعلق بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفِى موسى‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 38‏]‏، و‏{‏الضيف‏}‏ في الأصل مصدر بمعنى الميل ولذلك يطلق على الواحد والمتعدد، قيل‏:‏ كانوا اثني عشر ملكاً، وقيل‏:‏ ثلاثة‏.‏ جبرائيل‏.‏ وميكائيل‏.‏ وإسرافيل عليهم السلام وسموا ضيفاً لأنهم كانوا في صورة الضيف ولأن إبراهيم عليه السلام حسبهم كذلك، فالتسمية على مقتضى الظاهر والحسبان، وبدأ بقصة إبراهيم وإن كانت متأخرة عن قصة عاد لأنها أقوى في غرض التسلية ‏{‏مِنَ المكرمين‏}‏ أي عند الله عز وجل كما قال الحسن فهو كقوله تعالى في الملائكة عليهم السلام‏:‏ ‏{‏بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏ أو عند إبراهيم عليه السلام إذ خدمهم بنفسه وزوجته وعجل لهم القرى ورفع مجالسهم كما في بعض الآثار، وقرأ عكرمة ‏{‏المكرمين‏}‏ بالتشديد‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ‏}‏ ظرف للحديث لأنه صفة في الأصل، أو للضيف، أو ‏{‏لمكرمين‏}‏ إن أريد إكرام إبراهيم لأن إكرام الله تعالى إياهم لا يتقيد، أو منصوب بإضمار اذكر ‏{‏عَلَيْهِ فَقَالُواْ سلاما‏}‏ أي نسلم عليك سلاماً، وأوجب في «البحر» حذف الفعل لأن المصدر سادّ مسدّه فهو من المصادر التي يجب حذف أفعالها، وقال ابن عطية‏:‏ يتجه أن يعمل في ‏{‏سَلاَماً‏}‏ قالوا‏:‏ على أن يجعل في معنى قولاً ويكون المعنى حينئذٍ أنهم قالوا‏:‏ تحية وقولاً معناه ‏{‏سلام‏}‏ ونسب إلى مجاهد وليس بذاك‏.‏

‏{‏قَالَ سلام‏}‏ أي عليكم سلام عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات حتى يكون تحيته أحسن من تحيتهم أخذاً بمزيد الأدب والإكرام، وقيل‏:‏ ‏{‏سلام‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي أمري ‏{‏سلام‏}‏ وقرئا مرفوعين، وقرىء سلاماً قال سلما بكسر السين وإسكان اللام والنصب، والسلم السلام، وقرأ ابن وثاب‏.‏ والنخعي‏.‏ وابن جبير‏.‏ وطلحة سلاماً قال سلم بالكسر والإسكان والرفع، وجعله في «البحر» على معنى نحن أو أنتم سلم ‏{‏قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ أنكرهم عليه السلام للسلام الذي هو علم الإسلام، أو لأنهم عليهم السلام ليسوا ممن عهدهم من الناس، أو لأن أوضاعهم وأشكالهم خلاف ما عليه الناس، و‏{‏قَوْمٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف والأكثر على أن التقدير أنتم قوم منكرون وأنه عليه السلام قاله لهم للتعرف كقولك لمن لقيته‏:‏ أنا لا أعرفك تريد عرف لي نفسك وصفها، وذهب بعض المحققين إلى أن الذي يظهر أن التقدير هؤلاء ‏{‏قَوْمٌ مُّنكَرُونَ‏}‏ وأنه عليه السلام قاله في نفسه، أو لمن كان معه من أتباعه وغلمانه من غير أن يشعرهم بذلك فإنه الأنسب بحاله عليه السلام لأن في خطاب الضيف بنحو ذلك إيحاشاً مّا، وطلبه به أن يعرفوه حالهم لعله لا يزيل ذلك‏.‏ وأيضاً لو كان مراده ذلك لكشفوا أحوالهم عند القول المذكور ولم يتصد عليه السلام لمقدمات الضيافة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ‏}‏ أي ذهب إليهم على خفية من ضيفه، نقل أبو عبيدة أنه لا يقال‏:‏ راغ إلا إذا ذهب على خفية، وقال‏:‏ يقال روغ اللقمة إذا غمسها في السمن حتى تروى، قال ابن المنير‏:‏ وهو من هذا المعنى لأنها تذهب مغموسة في السمن حتى تخفى، ومن مقلوب الروغ غور الأرض والجرح لخفائه وسائر مقلوباته قريبة من هذا المعنى، وقال الراغب‏:‏ الروغ الميل على سبيل الاحتيال، ومنه راغ الثعلب، وراغ فلان إلى فلان مال نحوه لأمر يريده منه بالاحتيال، ويعلم منه أن لاعتبار قيد الخفية وجهاً وهو أمر يقتضيه المقام أيضاً لأن من يذهب إلى أهله لتدارك الطعام يذهب كذلك غالباً، وتشعر الفاء بأنه عليه السلام بادر بالذهاب ولم يمهل وقد ذكروا أن من أدب المضيف أن يبادر بالقرى من غير أن يشعر به الضيف حذراً من أن يمنعه الضيف، أو يصير منتظراً ‏{‏فَجَاء بِعِجْلٍ‏}‏ هو ولد البقرة كأنه سمي بذلك لتصور عجلته التي تعدم منه إذا صار ثوراً ‏{‏سَمِينٍ‏}‏ ممتلىء الجسد بالشحم واللحم يقال‏:‏ سمن كسمع سمانة بالفتح وسمناً كعنب فهو سامن وسمين، وكحسن السمين خلقة كذا في «القاموس»، وفي «البحر» يقال‏:‏ سمن سمناً فهو سمين شذوذاً في المصدر، واسم الفاعل‏.‏ والقياس سمن وسمن، وقالوا‏:‏ سامن إذا حدث له السمن انتهى، والفاء فصيحة أفصحت عن جمل قد حذفت ثقة بدلالة الحال عليها، وإيذاناً بكمال سرعة المجىء بالطعام أي فذبح عجلاً فحنذه فجاء به، وقال بعضهم إنه كان معداً عنده حنيذاً قبل مجيئهم لمن يرد عليه من الضيوف فلا حاجة إلى تقدير ما ذكر، والمشهور اليوم أن الذبح للضيف إذا ورد أبلغ في إكرامه من الإتيان بما هىء من الطعام قبل وروده، وكان كما روي عن قتادة عامة ماله عليه السلام البقر ولو كان عنده أطيب لحماً منها لأكرمهم به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏27‏]‏

‏{‏فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ ‏(‏27‏)‏‏}‏

‏{‏فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ‏}‏ بأن وضعه لديهم، وفيه دليل على أن من إكرام الضيف أن يقدم له أكثر مما يأكل وأن لا يوضع الطعام بموضع ويدعى الضيف إليه ‏{‏قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ‏}‏، قيل‏:‏ عرض للأكل فإن في ذلك تأنيساً للضيف، وقيل‏:‏ إنكار لعدم تعرضهم للأكل، وفي بعض الآثار أنهم قالوا‏:‏ إنا لا نأكل إلا ما أدينا ثمنه فقال عليه السلام‏:‏ إني لا أبيحه لكم إلا بثمن قالوا‏:‏ وما هو‏؟‏ قال‏:‏ أن تسموا الله تعالى عند الابتداء وتحمدوه عز وجل عند الفراغ فقال بعضهم لبعض‏:‏ بحق اتخذه الله تعالى خليلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏28‏]‏

‏{‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً‏}‏ فأضمر في نفسه منهم خوفاً لما رأى عليه الصلاة والسلام إعراضهم عن طعامه وظن أن ذلك لشر يريدونه فإن أكل الضيف أمنة؛ ودليل على انبساط نفسه وللطعام حرمة وذمام والامتناع منه وحشة موجبة لظن الشر‏.‏ وعن ابن عباس أنه عليه السلام وقع في نفسه أنهم ملائكة أرسلوا للعذاب فخاف ‏{‏قَالُواْ لاَ تَخَفْ‏}‏ إنا رسل الله تعالى، عن يحيى بن شداد مسح جبريل عليه السلام العجل بجناحه فقام يدرج حتى لحق بأمه فعرفهم وأمن منهم، وعلى ما روي عن الخبر أن هذا لمجرد تأمينه عليه السلام، وقيل‏:‏ مع تحقيق أنهم ملائكة وعلمهم بما أضمر في نفسه إما باطلاع الله تعالى إياهم عليه، أو إطلاع ملائكته الكرام الكاتبين عليه وإخبارهم به، أو بظهور أمارته في وجهه الشريف فاستدلوا بذلك على الباطن ‏{‏وَبَشَّرُوهُ‏}‏ وفي سورة الصافات ‏{‏وبشرناه‏}‏ أي بواسطتهم ‏{‏بغلام‏}‏ هو عند الجمهور إسحاق بن سارة وهو الحق للتنصيص على أنه المبشر به في سورة هود، والقصة واحدة، وقال مجاهد‏:‏ إسماعيل ابن هاجر كما رواه عنه ابن جرير وغيره ولا يكاد يصح ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ عند بلوغه واستوائه، وفيه تبشير بحياته وكانت البشارة بذكر لأنه أسر للنفس وأبهج، ووصفه بالعلم لأنها الصفة التي يختص بها الإنسان الكامل لا الصورة والجميلة والقوة ونحوهما، وهذا عند غير الأكثرين من أهل هذا الزمان فإن العلم عندهم لا سيما العلم الشرعي رذيلة لا تعادلها رذيلة والجهل فضيلة لا توازنها فضيلة، وفي صيغة المبالغة مع حذف المعمول ما لا يخفى مما يوجب السرور، وعن الحسن ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ نبي ووقعت البشارة بعد التأنيس، وفي ذلك إشارة إلى أن درء المفسدة أهم من جلب المصلحة، وذكر بعضهم أن علمه عليه السلام بأنهم ملائكة من حيث بشروه بغيب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏29‏]‏

‏{‏فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَقْبَلَتِ امرأته‏}‏ سارّة لما سمعت بشارتهم إلى بيتها وكانت في زاوية تنظر إليهم، وفي التفسير الكبير إنها كانت في خدمتهم فلما تكلموا مع زوجها بولادتها استحيت وأعرضت عنهم فذكر الله تعالى ذلك بلفظ الإقبال على الأهل دون الإدبار على الملائكة، وهو إن صح مثله عن نقل وأثر لا يأباه الخطاب الآتي لأنه يقتضي الإقبال دون الإدبار إذ يكفي لصحته أن يكون بمسمع منها وإن كانت مدبرة، نعم في الكلام عليه استعارة ضدية ولا قرينة ههنا تصححها، وقيل‏:‏ أقبلت بمعنى أخذت كما تقول أخذ يشتمني ‏{‏فِى صَرَّةٍ‏}‏ في صيحة من الصرير قاله ابن عباس، وقال قتادة‏.‏ وعكرمة‏:‏ صرتها رنتها، وقيل‏:‏ قولها أوه، وقيل‏:‏ يا ويلتي، وقيل‏:‏ في شدة، وقيل‏:‏ الصرة الجماعة المنضم بعضهم إلى بعض كأنهم صروا أي جمعوا في وعاء وإلى هذا ذهب ابن بحر قال‏:‏ أي أقبلت في صرة من نسوة تبادرن نظراً إلى الملائكة عليهم السلام، والجار والمجرور في موضع الحال، أو المفعول به إن فسر ‏{‏أقبلت‏}‏ بأخذت قيل‏:‏ إن ‏{‏بهذا فِى‏}‏ عليه زائدة كما في قوله‏:‏ يجرح في عراقيبها نصلي *** والتقدير أخذت صيحة، وقيل‏:‏ بل الجار والمجرور في موضع الخبر لأن الفعل حينئذٍ من أفعال المقاربة ‏{‏فَصَكَّتْ وَجْهَهَا‏}‏ قال مجاهد‏:‏ ضربت بيدها على جبهتها وقالت‏:‏ يا ويلتاه، وقيل‏:‏ إنها وجدت حرارة الدم فلطمت وجهها من الحياء، وقيل‏:‏ إنها لطمته تعجباً وهو فعل النساء إذا تعجبن من شيء ‏{‏وَقَالَتْ عَجُوزٌ‏}‏ أي أنا عجوز ‏{‏عَقِيمٍ‏}‏ عاقر فكيف ألد، وعقيم فعيل قيل‏:‏ بمعنى فاعل أو مفعول وأصل معنى العقم اليبس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏30‏]‏

‏{‏قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ كَذَلِكِ‏}‏ أي مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرنا به ‏{‏قَالَ رَبُّكِ‏}‏ وإنما نحن معبرون نخبرك به عنه عز وجل لا أنا نقوله من تلقاء أنفسنا، وروي أن جبريل عليه السلام قال لها‏:‏ انظري إلى سقف بيتك فنظرت فإذا جذوعه مورقة مثمرة ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم‏}‏ فيكون قوله عز وجل حقاً وفعله سبحانه متقناً لا محالة، وهذه المفاوضة لم تكن مع سارة فقط بل كانت مع إبراهيم أيضاً حسبما تقدم في سورة الحجر، وإنما لم يذكر ههنا اكتفاءاً بما ذكر هناك كما أنه لم يذكر هناك سارة اكتفاءاً بما ذكر ههنا وفي سورة هود‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏31‏]‏

‏{‏قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

‏{‏قَالَ‏}‏ أي إبراهيم عليه السلام لما علم أنهم ملائكة أرسلوا لأمر ‏{‏فَمَا خَطْبُكُمْ‏}‏ أي شأنكم الخطير الذي لأجله أرسلتم سوى البشارة ‏{‏أَيُّهَا المرسلون‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏32‏]‏

‏{‏قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ‏}‏ يعنون قوم لوط عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏33‏]‏

‏{‏لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ‏(‏33‏)‏‏}‏

‏{‏لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ‏}‏ أي بعد قلب قراهم عاليها سافلها حسبما فصل في سائر السور الكريمة ‏{‏حِجَارَةً مّن طِينٍ‏}‏ أي طين متحجر وهو السجيل؛ وفي تقييد كونها من طين رفع توهم كونها برداً فإن بعض الناس يسمى البرد حجارة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏34‏]‏

‏{‏مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ‏(‏34‏)‏‏}‏

‏{‏مُّسَوَّمَةً‏}‏ معلمة من السومة وهي العلامة على كل واحدة منها اسم من يهلك بها؛ وقيل‏:‏ أعلمت بأنها من حجارة العذاب، وقيل‏:‏ بعلامة تدل على أنها ليست من حجارة الدنيا، وقيل‏:‏ مسومة مرسلة من أسمت الإبل في المرعى، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 10‏]‏ ‏{‏عِندَ رَبّكَ‏}‏ أي في محل ظهور قدرته سبحانه وعظمته عز وجل، والمراد إنها معلمة في أول خلقها، وقيل‏:‏ المعنى إنها في علم الله تعالى معدّة ‏{‏لِلْمُسْرِفِينَ‏}‏ المجاوزين الحد في الفجور، وأل عند الإمام للعهد أي لهؤلاء المسرفين، ووضع الظاهر موضع الضمير ذمّاً لهم بالإسراف بعد ذمّهم بالإجرام، وإشارة إلى علة الحكم، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏35‏]‏

‏{‏فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏35‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَخْرَجْنَا‏}‏ إلى آخره حكاية من جهته تعالى لما جرى على قوم لوط عليه السلام بطريق الإجمال بعد حكاية ما جرى بين الملائكة وبين إبراهيم عليه السلام من الكلام، والفاء فصيحة مفصحة عن جمل قد حذفت ثقة بذكرها في موضع آخر كأنه قيل‏:‏ فقاموا منه وجاءوا لوطاً فجرى بينهم وبينه ما جرى فباشروا ما أمروا به فأخرجنا بقولنا‏:‏ ‏{‏فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 81‏]‏ الخ ‏{‏مَن كَانَ فِيهَا‏}‏ أي في قرى قوم لوط وإضمارها بغير ذكر لشهرتها‏.‏

‏{‏مِنَ المؤمنين‏}‏ ممن آمن بلوط عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏36‏]‏

‏{‏فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏36‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ‏}‏ أي غير أهل بيت للبيان بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنَ المسلمين‏}‏ فالكلام بتقدير مضاف، وجوز أن يراد بالبيت نفسه الجماعة مجازاً، والمراد بهم كما أخرج ابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم عن مجاهد لوط وابنتاه، وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير أنه قال‏:‏ كانوا ثلاثة عشر، واستدل بالآية على اتحاد الإيمان والإسلام للاستثناء المعنوي فإن المعنى فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فلم يكن المخرج إلا أهل بيت واحد وإلا لم يستقم الكلام، وأنت تعلم أن هذا يدل على أنهما صادقان على الأمر الواحد لا ينفك أحدهما عن الآخر كالناطق والإنسان إما على الاتحاد في المفهوم وهو المختلف فيه عند أهل الأصول والحديث فلا، فالاستدلال بها على اتحادهما فيه ضعيف، نعم تدل على أنهما صفتا مدح من أوجه عديدة استحقاق الإخراج واختلاف الوصفين وجعل كل مستقلاً بأن يجعل سبب النجاة وما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مَن كَانَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 35‏]‏ أولاً، و‏{‏غَيْرَ بَيْتٍ‏}‏ ثانياً من الدلالة على المبالغة فإن صاحبهما محفوظ ‏{‏مَن كَانَ‏}‏ وأين كان إلى غير ذلك، ومعنى الوجدان منسوباً إليه تعالى العلم على ما قاله الراغب، وذهب بعض الأجلة إلى أنه لا يقال‏:‏ ما وجدت كذا إلا بعد الفحص والتفتيش، وجعل عليه معنى الآية فأخرج ملائكتنا ‏{‏مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين‏}‏ فما وجد ملائكتنا فيها ‏{‏غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين‏}‏ أو في الكلام ضرب آخر من المجاز فلا تغفل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏37‏]‏

‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا آَيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا‏}‏ أي في القرى ‏{‏ءايَةً‏}‏ علامة دالة على ما أصابهم من العذاب، قال ابن جريج‏:‏ هي أحجار كثيرة منضودة، وقيل‏:‏ تلك الأحجار التي أهلكوا بها، وقيل‏:‏ ماء منتن قال الشهاب‏:‏ كأنه بحيرة طبرية، وجوز أبو حيان كون ضمير ‏{‏فِيهَا‏}‏ عائداً على الإهلاكة التي أهلكوها فإنها من أعاجيب الإهلاك بجعل أعالي القرية أسافل، وإمطار الحجارة، والظاهر هو الأول ‏{‏لّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الاليم‏}‏ أي من شأنهم أن يخافوه لسلامة فطرتهم ورقة قلوبهم دون من عداهم من ذوي القلوب القاسية فإنهم لا يعتدون بها ولا يعدونها آية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏38‏]‏

‏{‏وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى موسى‏}‏ عطف على ‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 37‏]‏ بتقدير عامل له أي وجعلنا في موسى، والجملة معطوفة على الجملة، أو هو عطف على ‏{‏فِيهَا‏}‏ بتغليب معنى عامل الآية، أو سلوك طريق المشاكلة في عطفه على الأوجه التي ذكرها النحاة في نحو‏:‏ علفتها تبناً وماءاً بارداً *** لا يصح تسليط الترك بمعنى الإبقاء على قوله سبحانه‏.‏ ‏{‏وَفِى موسى‏}‏ فقول أبي حيان‏.‏ لا حاجة إلى إضمار ‏{‏تَّرَكْنَا‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 37‏]‏ لأنه قد أمكن العامل في المجرور تركنا الأول فيه بحث، وقيل‏:‏ ‏{‏فِى موسى‏}‏ خبر لمبتدأ محذوف أي ‏{‏وَفِى موسى‏}‏ آية، وجوز ابن عطية‏.‏ وغيره أن يكون معطوفاً على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَفِى الارض وَمَا بَيْنَهُمَا‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 20‏]‏ اعتراض لتسليته عليه الصلاة والسلام على ما مر، وتعقبه في «البحر» بأنه بعيد جداً ينزه القرآن الكريم عن مثله ‏{‏إِذْ أرسلناه‏}‏ قيل‏:‏ بدل من ‏{‏موسى‏}‏، وقيل‏:‏ هو منصوب بآية، وقيل‏:‏ بمحذوف أي كائنة وقت إرسالنا، وقيل‏:‏ بتركنا‏.‏

‏{‏إلى فِرْعَوْنَ بسلطان مُّبِينٍ‏}‏ هو ما ظهر على يديه من المعجزات الباهرة، والسلطان يطلق على ذلك مع شموله للواحد والمتعدد لأنه في الأصل مصدر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏39‏]‏

‏{‏فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏39‏)‏‏}‏

‏{‏فتولى بِرُكْنِهِ‏}‏ فأعرض عن الإيمان بموسى عليه السلام على أن ركنه جانب بدنه وعطفه، والتولي به كناية عن الإعراض، والباء للتعدية لأن معناه ثني عطفه، أو للملابسة، وقال قتادة‏:‏ تولى بقومه على أن الركن بمعنى القوم لأنه يركن إليهم ويتقوى بهم، والباء للمصاحبة أو الملابسة وكونها للسببية غير وجيه، وقيل‏:‏ تولى بقوته وسلطانه، والركن يستعار للقوة كما قال الراغب وقرىء بركنه بضم الكاف اتباعاً للراء ‏{‏وَقَالَ ساحر‏}‏ أي هو ساحر ‏{‏أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ كان اللعين جعل ما ظهر على يديه عليه السلام من الخوارق العجيبة منسوبة إلى الجن وتردد في أنه حصل باختياره فيكون سحراً، أو بغير اختياره فيكون جنوناً، وهذا مبني على زعمه الفاسد وإلا فالسحر ليس من الجن كما بين في محله فأو للشك، وقيل‏:‏ للإبهام، وقال أبو عبيدة‏:‏ هي بمعنى الواو لأن اللعين قال الأمرين قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ هذا لساحر عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 34‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الذى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 27‏]‏ وأنت تعلم أن اللعين يتلون تلون الحرباء فلا ضرورة تدعو إلى جعلها بمعنى الواو‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏40‏]‏

‏{‏فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏40‏)‏‏}‏

‏{‏فأخذناه وَجُنُودَهُ فنبذناهم‏}‏ طرحناهم غير معتدّين بهم ‏{‏فِي اليم‏}‏ في البحر، والمراد فأغرقناهم فيه، وفي الكلام من الدلالة على غاية عظم شأن القدرة الربانية ونهاية قمأة فرعون وقومه ما لا يخفى ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ أي آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان فالأفعال هنا للإتيان بما يقتضي معنى ثلاثية كأغرب إذا أتى أمراً غريباً، وقيل‏:‏ الصيغة للنسب، أو الإسناد للسبب وهو كما ترى وكون الملام عليه هنا الكفر والطغيان هو الذي يقتضيه حال فرعون وهو مما يختلف باعتبار من وصف به فلا يتوهم أنه كيف وصف اللعين بما وصف به ذو النون عليه السلام‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏41‏]‏

‏{‏وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا‏}‏ على طرز ما تقدم ‏{‏عَلَيْهِمُ الريح العقيم‏}‏ الشديد التي لا تلقح شيئاً كما أخرجه جماعة عن ابن عباس وصححه الحاكم، وفي لفظ هي ريح لا بركة فيها ولا منفعة ولا ينزل منها غيث ولا يلقح بها شجر كأنه شبه عدم تضمن المنفعة بعقم المرأة فعيل بمعى فاعل من اللازم وكون هذا المعنى لا يصح هنا مكابرة، وقال بعضهم وهو حسن‏:‏ سميت عقيماً لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم على أن هناك استعارة تبعية شبه إهلاكهم وقطع دابرهم بعقم النساء وعدم حملهن لما فيه من إذهاب النسل ثم أطلق المشبه به على المشبه واشتق منه العقيم، وفعيل قيل‏:‏ بمعنى فاعل أو مفعول، وهذه الريح كانت الدبور لما صح من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» وأخرج الفريابي‏.‏ وابن المنذر عن علي كرم الله تعالى وجهه أنها النكباء، وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن المسيب أنها الجنوب، وأخرج ابن المنذر عن مجاهد أنها الصبا، والمعول عليه ما ذكرنا أولاً، ولعل الخبر عن الأمير كرم الله تعالى وجهه غير صحيح‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏42‏]‏

‏{‏مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏مَا تَذَرُ مِن شَىْء‏}‏ ما تدع شيئاً ‏{‏أَتَتْ عَلَيْهِ‏}‏ جرت عليه ‏{‏إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم‏}‏ الشيء البالي من عظم، أو نبات، أو غير ذلك من رمّ الشيء بلي، ويقال للبالي‏:‏ رمام كغراب، وأرم أيضاً لكن قال الراغب‏:‏ يختص الرم بالفتات من الخشب والتبن، والرمة بالكسر تختص بالعظم البالي، والرمة بالضم بالحبل البالي، وفسره السدي هنا بالتراب، وقتادة بالهشيم، وقطرب بالرماد، وفسره ابن عيسى بالمنسحق الذي لا يرم أي لا يصلح كأنه جعل الهمزة في أرم للسلب، والجملة بعد ‏{‏إِلا‏}‏ حالية، والشيء هنا عام مخصوص أي من شيء أراد الله تعالى تدميره وإهلاكه من ناس‏.‏ أو ديار‏.‏ أو شجر‏.‏ أو غير ذلك، روي أن الريح كانت تمر بالناس فيهم الرجل من عاد فتنتزعه من بينهم وتهلكه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏43‏]‏

‏{‏وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ‏(‏43‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِى ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ‏}‏ أخرج البيهقي في سننه عن قتادة أنه ثلاثة أيام وإليه ذهب الفراء‏.‏ وجماعة قال‏:‏ تفسيره قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تَمَتَّعُواْ فِى دَارِكُمْ ثلاثة أَيَّامٍ‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 56‏]‏ واستشكل بأن هذا التمتع مؤخر عن العتو لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ‏}‏ الخ، وقوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ‏}‏ يدل على أن العتو مؤخر، وأجيب بأن هذا مرتب على تمام القصة كأنه قيل‏:‏ وجعلنا في زمان قولنا ذلك لثمود آية أو وفي زمان قولنا ذلك لثمود آية، ثم أخذ في بيان كونه آية فقيل‏.‏ ‏{‏فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبّهِمْ‏}‏ أي فاستكبروا عن الامتثال به إلى الآخر، فالفاء للتفصيل قال في «الكشف»‏.‏ وهو الظاهر من هذا المساق، وكذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فتولى بِرُكْنِهِ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 39‏]‏ مرتب على القصة زمان إرسال موسى عليه السلام بالسلطان، وإن كان هناك لا مانع من الترتب على الإرسال وذلك لأنه جىء بالظرف مجىء الفضلة حيث جعل فيه الآية، والقصة من توليهم إلا هلاكهم انتهى، وقال الحسن‏:‏ هذا أي القول لهم ‏{‏تمتعوا حتى حين‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 43‏]‏ كان حين بعث إليهم صالح أمروا بالإيمان بما جاء به، والتمتع إلى أن تأتي آجالهم ثم عتوا بعد ذلك قال في «البحر»، ولذلك جاء العطف بالفاء المقتضية تأخر العتو عما أمروا به فهو مطابق لفظاً ووجوداً واختاره الإمام فقال‏.‏ قال بعض المفسرين‏:‏ المراد بالحين الأيام الثلاثة التي أمهلوها بعد عقر الناقة وهو ضعيف لأن ترتب فعتوا بالفاء دليل على أن العتو كان بعد القول المذكور، فالظاهر أنه ما قدر الله تعالى من الآجال فما من أحد إلا وهو ممهل مدة الأجل كأنه يقول له‏.‏ تمتع إلى آخر أجلك فإن أحسنت فقد حصل لك التمتع في الدارين وإلا فمالك في الآخرة من نصيب انتهى، وما تقدم أبعد مغزى ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة‏}‏ أي أهلكتهم، روي أن صالحاً عليه السلام وعدهم الهلاك بعد ثلاثة أيام، وقال لهم‏:‏ تصبح وجوهك غداً مصفرة‏.‏ وبعد غد محمرة‏.‏ واليوم الثالث مسودة ثم يصبحكم العذاب، ولما رأوا الآيات التي بينها عليه السلام عمدوا إلى قتله فنجاه الله تعالى فذهب إلى أرض فلسطين ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم الصاعقة وهي نار من السماء، وقيل‏:‏ صيحة منها فهلكوا، وقرأ عمر‏.‏ وعثمان رضي الله تعالى عنهما‏.‏ والكسائي الصعقة وهي المرة من الصعق بمعنى الصاعقة أيضاً، أو الصيحة ‏{‏وَهُمْ يَنظُرُونَ‏}‏ إليها ويعاينونها ويحتاج إلى تنزيل المسموع منزلة المبصر على القول بأن الصاعقة الصيحة وأن المراد ينظرون إليها، وقال مجاهد‏:‏ ‏{‏يُنظَرُونَ‏}‏ بمعنى ينتظرون أي وهم ينتظرون الأخذ والعذاب في تلك الأيام الثلاثة التي رأوا فيها علاماته وانتظار العذاب أشد من العذاب‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ‏}‏ كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جاثمين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 87‏]‏ وقيل‏:‏ هو من قولهم‏:‏ ما يقوم فلان بكذا إذا عجز عن دفعه، وروي ذلك عن قتادة فهو معنى مجازي، أو كناية شاعت حتى التحقت بالحقيقة ‏{‏وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ‏}‏ بغيرهم كما لم يتمنعوا بأنفسهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ‏}‏ أي وأهلكنا قوم، فإن ما قبله يدل عليه، أو واذكر، وقيل‏:‏ عطف على الضمير في ‏{‏فَأَخَذَتْهُمُ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 44‏]‏، وقيل‏:‏ في ‏{‏فنبذناهم‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 40‏]‏ لأن معنى كل فأهلكناهم هو كما ترى وجوز أن يكون عطفاً على محل ‏{‏وَفِى عَادٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 41‏]‏ أو ‏{‏وَفِى ثَمُودَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 43‏]‏ وأيد بقراءة عبد الله‏.‏ وأبي عمرو‏.‏ وحمزة‏.‏ والكسائي‏.‏ وقوم بالجر، وقرأ عبد الوارث‏.‏ ومحبوب‏.‏ والأصمعي عن أبي عمرو‏.‏ وأبو السمال‏.‏ وابن مقسم‏.‏ وقوم بالرفع والظاهر أنه على الابتداء، والخبر محذوف أي أهلكناهم ‏{‏مِن قَبْلُ‏}‏ أي من قبل هؤلاء المهلكين ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فاسقين‏}‏ خارجين عن الحدود فيما كانوا فيه من الكفر والمعاصي‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏والسماء‏}‏ أي وبنينا السماء ‏{‏بنيناها‏}‏ أي بقوة قاله ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة، ومثله الآد وليس جمع ‏{‏الله يَدُ‏}‏ وجوزه الإمام وإن صحت التورية به ‏{‏وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏}‏ أي لقادرون من الوسع بمعنى الطاقة، فالجملة تذييل إثباتاً لسعة قدرته عز وجل كل شيء فضلاً عن السماء، وفيه رمز إلى التعريض الذي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 38‏]‏، وعن الحسن ‏{‏لَمُوسِعُونَ‏}‏ الرزق بالمطر وكأنه أخذه من أن المساق مساق الامتنان بذلك على العباد لا إظهار القدرة فكأنه أشير في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والسماء بنيناها بِأَيْدٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏ إلى ما تقدم من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَفِى السماء رِزْقُكُمْ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 22‏]‏ على بعض الأقوال فناسب أن يتمم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 47‏]‏ مبالغة في المنّ ولا يحتاج أن يفسر الأيد بالأنعام على هذا القول لأنه يتم المقصود دونه، واليد بمعنى النعمة لا الإنعام، وقيل‏:‏ أي لموسعوها بحيث أن الأرض وما يحيط بها من الماء والهواء بالنسبة إليها كحلقة في فلاة، وقيل‏:‏ أي لجاعلون لمكانية، بينها وبين الأرض سعة، والمراد السعة المكانية، وفيه على القولين تتميم أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏والارض‏}‏ أي وفرشنا الأرض ‏{‏فرشناها‏}‏ أي مهدناها وبسطناها لتستقروا عليها ولا ينافي ذلك شبهها للكرة على ما يزعمه فلاسفة العصر ‏{‏فَنِعْمَ الماهدون‏}‏ أي نحن، وقرأ أبو السمال‏.‏ ومجاهد‏.‏ وابن مقسم برفع السماء ورفع الأرض على أنهما مبتدآن وما بعدهما خبر لهما‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِن كُلّ شَىْء‏}‏ أي من كل جنس من الحيوان ‏{‏خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏ نوعين ذكراً وأنثى قاله ابن زيد‏.‏ وغيره وقال مجاهد‏:‏ هذا إشارة إلى المتضادات والمتقابلات كالليل‏.‏ والنهار‏.‏ والشقوة‏.‏ والسعادة‏.‏ والهدى‏.‏ والضلال‏.‏ والسماء‏.‏ والأرض والسواد‏.‏ والبياض‏.‏ والصحة‏.‏ والمرض‏.‏ إلى غير ذلك، ورجحه الطبري بأنه أدل على القدرة، وقيل‏:‏ أريد بالجنس المنطقي، وأقل ما يكون تحته نوعان فخلق سبحانه من الجوهر مثلاً المادي والمجرد، ومن المادي النامي والجامد، ومن النامي المدرك والنبات، ومن الدرك الصامت والناطق وهو كما ترى ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ أي فعلنا ذلك كله كي تتذكروا فتعرفوا أنه عز وجل الرب القادر الذي لا يعجزه شيء فتعملوا بمقتضاه ولا تعبدوا ما سواه، وقيل‏:‏ خلقنا ذلك كي تتذكروا فتعلموا أن التعدد من خواص الممكنات وأن الواجب بالذات سبحانه لا يقبل التعدد والانقسام، وقيل‏:‏ المراد التذكر بجميع ما ذكر لأمر الحشر والنشر لأن من قدر على إيجاد ذلك فهو قادر على إعادة الأموات يوم القيامة وله وجه، وقرأ أبيّ تتذكرون بتاءين وتخفيف الذال‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏فَفِرُّواْ إِلَى الله‏}‏ تفريع على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 49‏]‏ وهو تمثيل للاعتصام به سبحانه وتعالى وبتوحيده عز وجل، والمعنى قل يا محمد‏:‏ ‏{‏فَفِرُّواْ إِلَى الله‏}‏ لمكان ‏{‏إِنّى لَكُمْ مّنْهُ‏}‏ أي من عقابه تعالى المعد لمن لم يفر إليه سبحانه ولم يوحده ‏{‏نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ بين كونه منذراً من الله سبحانه بالمعجزات، أو ‏{‏مُّبِينٌ‏}‏ ما يجب أن يحذر عنه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ‏}‏ عطف على الأمر، وهو نهى عن الإشراك صريحاً على نحو وحدوه ولا تشركوا، ومن الأذكار المؤثورة‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وكرر قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنّى لَكُمْ مّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ‏}‏ لاتصال الأول بالأمر واتصال هذا بالنهي والغرض من كل ذلك الحث على التوحيد والمبالغة في النصيحة، وقيل‏:‏ إن المراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَفِرُّواْ إِلَى الله‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 05‏]‏ الأمر بالإيمان وملازمة الطاعة، وذكر ‏{‏وَلاَ تَجْعَلُواْ‏}‏ الخ، إفراداً لأعظم ما يجب أن يفر منه، و‏{‏إِنِّي لَكُمْ‏}‏ الخ، الأول مرتب على ترك الإيمان والطاعة، والثاني على الإشراك فهما متغايران لتغاير ما ترتب كل منهما عليه ووقع تعليلاً له ولا يخلو عن كدر، وقال الزمخشري‏:‏ في الآية‏:‏ ‏{‏فانظر إلى‏}‏ طاعته وثوابه من معصيته وعقابه ووحدوا ولا تشركوا به، وكرر ‏{‏إِنِّي لَكُمْ‏}‏ الخ عند الأمر بالطاعة والنهي عن الشرك ليعلم أن الإيمان لا ينفع إلا مع العمل كما أن العمل لا ينفع إلا مع الإيمان وأنه لا يفوز عند الله تعالى إلا الجامع بينهما انتهى، وفيه أنه لا دلالة في الآية على ذلك بوجه ثم تفسير الفرار إلى الله بما فسره أيضاً لينطبق على العمل وحده غير مسلم على أنه لو سلم الإنذار بترك العمل فمن أين يلزم عدم النفع، وأهل السنة لا ينازعون في وقوع الإنذار بارتكاب المعصية، فالمنساق إلى الذهن على تقدير كون المراد بالفرار إلى الله تعالى العبادة أنه تعالى أمر بها أولاً وتوعد تاركها بالوعيد المعروف له في الشرع وهو العذاب دون خلود، ونهى جل شأنه ثانياً أن يشرك بعبادته سبحانه غيره وتوعد المشرك بالوعيد المعروف له وهو الخلود، وعلى هذا يكون الوعيد أن متغايرين وتكون الآية في تقديم الأمر على النهي فيها نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالحا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبّهِ أَحَدَا‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 110‏]‏، وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 36‏]‏ وأين هذا مما ذكره الزمخشري عامله الله تعالى بعدله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏كذلك‏}‏ أي الأمر مثل ذلك تقرير وتوكيد على ما مر غير مرة، ومن فصل الخطاب لأنه لما أراد سبحانه أن يستأنف قصة قولهم المختلف في الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن تقدمت عموماً أو خصوصاً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِى قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ‏}‏ ‏[‏الذاريات‏:‏ 8‏]‏ وكان قد توسط ما توسط قال سبحانه‏:‏ الأمر كذلك أي مثل ما يذكر ويأتيك خبره إشارة إلى الكلام الذي يتلوه أعني قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَا ءاتَيْتُكَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ إلى آخره فهو تفسير ما أجمل وهو مراد من قال‏:‏ الإشارة إلى تكذيبهم الرسول عليه الصلاة والسلام وتسميتهم إياه وحاشاه ساحراً ومجنوناً، ويعلم مما ذكر أن كذلك خبر مبتدأ محذوف ولا يجوز نصبه بأتى على أنه صفة لمصدره، والإشارة إلى الإتيان أي ‏{‏مَا ءاتَيْتُكَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ من رسول إتياناً مثل إتيانهم ‏{‏إِلاَّ قَالُواْ الامر وَعَصَيْتُمْ مّن بَعْدِ مَا‏}‏ النافية لا يعمل فيما قبلها على المشهور، ولا يأتي مقدراً على شريطة التفسير لأن ما لا يعمل لا يفسر عاملاً في مثل ذلك كما صرح به النحاة، وجعله معمولاً لقالوا، والإشارة للقول أي إلا قالوا ساحر أو مجنون قولاً مثل ذلك القول لا يجوز أيضاً على تعسفه لمكان ‏{‏مَا‏}‏ وضمير قبلهم لقريش أي ما أتي الذين من قبل قريش ‏{‏مِن رَّسُولٍ‏}‏ أي رسول من رسل الله تعالى ‏{‏إِلاَّ قَالُواْ‏}‏ في حقه ‏{‏ساحر أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ خبر مبتدأ محذوف أي هو ساحر، وأو قيل‏:‏ من الحكاية أي ‏{‏إِلاَّ قَالُواْ ساحر‏}‏، أو ‏{‏قَالُواْ مَّجْنُونٍ‏}‏ وهي لمنع الخلو وليست من المحكي ليكون مقول كل مجموع ‏{‏ساحر أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏ وفي البحر هي للتفصيل أي قال بعض‏:‏ ساحر؛ وقال بعض‏:‏ مجنون، وقال بعض‏:‏ ساحر ومجنون فجمع القائلون في الضمير ودلت أو على التفصيل انتهى فلا تغفل‏.‏

واستشكلت الآية بأنها تدل على أنه ما من رسول إلا كذب مع أن الرسل المقررين شريعة من قبلهم كيوشع عليه السلام لم يكذبوا وكذا آدم عليه السلام أرسل ولم يكذب‏.‏ وأجاب الإمام بقوله‏:‏ لا تسلم أن المقرر رسول بل هو نبي على دين رسول ومن كذب رسوله فهو يكذبه أيضاً وتعقب بأن الأخبار وكذا الآيات دالة على أن المقررين رسل، وأيضاً يبقى الاستشكال بآدم عليه السلام وقد اعترف هو بأنه أرسل ولم يكذب وأجاب بعض عن الاستشكال بالمقررين بأن الآية إنما تدل على أن الرسل الذين أتوا من قبلهم كلهم قد قيل في حقهم ما قيل، ولا يدخل في عموم ذلك المقررون لأن المتبادر من إتيان الرسول قوما مجيئه إياهم مع عدم تبليغ غيره إياهم ما أتي به من قبله وذلك لم يحصل للمقرر شرع من قبله كما لا يخفى، وعن الاستشكال بآدم عليه السلام بأن المراد ما أتي الذين من قبلهم من الأمم الذين كانوا موجودين على نحو وجود هؤلاء رسول إلا قالوا الخ، وآدم عليه السلام لم يأت أمة كذلك إذ لم يكن حين أرسل إلا زوجته حواء، ولعله أولى مما قيل‏:‏ إن المراد من رسول من بني آدم فلا يدخل هو عليه السلام في ذلك، واستشكل أيضاً بأن ‏{‏إِلاَّ قَالُواْ‏}‏ يدل على أنهم كلهم كذبوا مع أنه ما من رسول إلا آمن به قوم، وأجاب الإمام بأن إسناد القول إلى ضمير الجمع على إرادة الكثير بل الأكثر، وذكر المكذب فقط لأنه الأوفق بغرض التسلية، وأخذ منه بعضهم الجواب عن الاستشكال السابق فقال‏:‏ الحكم باعتبار الغالب لا أن كل أمة من الأمم أتاها رسول فكذبته ليرد آدم والمقررون حيث لم يكذبوا وفيه ما فيه وحمل بعضهم الذين من قبلهم على الكفار ودفع به الاستشكالين وفيه ما لا يخفى فتأمل جميع ذلك ولا تظن انحصار الجواب فيما سمعت فأمعت النظر والله تعالى الهادي لأحسن المسالك‏.‏